بسم الله الرحمن الرحيم
قال عنه الإمام الذهبي: صاحب الشام، الملك العادل، نور الدين، ناصر أمير المؤمنين، تقي الملوك، ليث الإسلام، أبو القاسم محمود ابن الأتابك قسيم الدولة أبي سعيد زنكي ابن الأمير الكبير آقسنقر التركي، السلطاني، الملكشاهي
مولده: في شوال سنة إحدى عشرة وخمس مائة.
ووصفه ابن خلكان بأنه كان ملكاً عادلاً زاهداً عابداً ورعاً، متمسكاً بالشريعة مائلاً إلى أهل الخير، مجاهداً في سبيل الله تعالى، كثير الصدقات، بنى المدارس بجميع بلاد الشام الكبار مثل دمشق وحلب وحماة وحمص وبعلبك ومنبج والرحبة. وبنى بمدينة الموصل الجامع النوري، ورتب له ما يكفيه، وبحماة الجامع الذي على نهر العاصي، وجامع الرها وجامع منبج. وبيمارستان دمشق، ودار الحديث أيضاً.. وكان أسمر اللون طويل القامة حسن الصورة، ليس بوجهه شعر سوى ذقنه.
وذكر ابن خلكان أن بعض أصحاب نور الدين حاولوا إقناعه - في بعض غزواته - بتموين الجيش من خلال الاستعانة بالهبات التي يقدمها، وقالوا له: إن في بلادك إدرارات وصدقات وصلات كثيرة على الفقهاء والصوفية والقراء، ولو استعنت بها في هذا الوقت لكان أصلح. فغضب من ذلك غضباً شديداً، وقال: "إني لا أرجو النصر إلا بأولئك؛ فإنما ترزقون وتنصرون بضعفائكم. كيف أقطع صلات قوم يقاتلون عني وأنا نائم على فراشي بسهام لا تخطئ، وأصرفها إلى من لا يقاتل عني إلا بسهام قد تصيب وتخطئ. وهؤلاء القوم لهم نصيب في بيت المال فكيف يحل أن أعطيه غيرهم".
إلى أن قال ابن خلكان: وله من المناقب والمآثر والمفاخر ما يستغرق الوصف.
ووصفه الذهبي بقوله: "وكان نور الدين حامل رايتي العدل والجهاد، قلّ أن ترى العيون مثله. حاصر دمشق، ثم تملكها، وبقي بها عشرين سنة. افتتح أولاً حصوناً كثيرة.. وهزم البرنس صاحب أنطاكية، وقتله في ثلاثة آلاف من الفرنج، وأظهر السنة بحلب، وقمع الرافضة".
وكان بطلاً، شجاعاً، وافر الهيبة، حسن الرمي، مليح الشكل، ذا تعبد وخوف وورع، وكان يتعرض للشهادة. سمعه كاتبه أبو اليسر يسأل الله أن يحشره من بطون السباع وحواصل الطير.
وبنى دار العدل، وأنصف الرعية، ووقف على الضعفاء والأيتام والمجاورين، وأمر بتكميل سور المدينة النبوية، وفتح درب الحجاز، وعمر الخوانق والربط والجسور والخانات بدمشق وغيرها، وكذا فعل إذ ملك حران وسنجار والرها والرقة ومنبج وشيزر وحمص وحماة وصرخد وبعلبك وتدمر.
وكان نور الدين مليح الخط، كثير المطالعة، يصلي في جماعة، ويصوم، ويتلو، ويسبح، ويتحرى في القوت، ويتجنب الكبر، ويتشبه بالعلماء والأخيار.. ذكر هذا ونحوه الحافظ ابن عساكر. ثم قال: روى الحديث، وأسمعه بالإجازة. وكان من رآه شاهد من جلال السلطنة وهيبة الملك ما يبهره، فإذا فاوضه، رأى من لطافته وتواضعه ما يحيره.. وحكى من صحِبَه - حضراً وسفراً - أنه ما سمع منه كلمة فحش في رضاه ولا في ضجره. وكان يؤاخي الصالحين، ويزورهم، وإذا احتلم مماليكه أعتقهم، وزوجهم بجواريه. ومتى تشكوا من ولاته عزلهم. وغالب ما تملّكه من البلدان تسلمه بالأمان. وكان كلما أخذ مدينة، أسقط عن رعيته قسطاً.
وقال أبو الفرج ابن الجوزي: وكان يميل إلى التواضع وحب العلماء والصلحاء، وكاتبني مراراً، وعزم على فتح بيت المقدس، فتوفي في شوال سنة تسع وستين وخمس مائة.
وقال الموفق عبد اللطيف: كان نور الدين لم ينشف له لِبد من الجهاد، وكان يأكل من عمل يده، ينسخ تارة، ويعمل أغلافاً تارة، ويلبس الصوف، ويلازم السجادة والمصحف، وكان حنفياً، يراعي مذهب الشافعي ومالك، وكان ابنه الصالح إسماعيل أحسن أهل زمانه.
وقال ابن الأثير: كان أسمر، له لحية في حنكه، وكان واسع الجبهة، حسن الصورة، حلو العينين. ثم قال: طالعتُ السير، فلم أر فيها بعد الخلفاء الراشدين وعمر بن عبد العزيز أحسن من سيرته، ولا أكثر تحرياً منه للعدل، وكان لا يأكل ولا يلبس ولا يتصرف إلا من مِلكٍ له قد اشتراه من سهمه من الغنيمة. لقد طلبت زوجته منه (زيادة في النفقة)، فأعطاها ثلاثة دكاكين، فاستقلّتها، فقال: ليس لي إلا هذا، وجميع ما بيدي أنا فيه خازن للمسلمين. وكان يتهجد كثيراً، وكان عارفاً بمذهب أبي حنيفة، لم يترك في بلاده على سعتها مكساً. وسمعت – الكلام لابن الأثير - أن حاصل أوقافه في البر في كل شهر تسعة آلاف دينار صورية.
ثم نقل ابن الأثير قول القطب النيسابوري له: بالله لا تخاطر بنفسك، فإن أصبت في معركة لا يبقى للمسلمين أحد إلا أخذه السيف، فقال: ومن محمود حتى يقال هذا؟!. حفظ الله البلاد قبلي، لا إله إلا هو.
ثم قال ابن الأثير: كان ديناً، تقياً، لا يرى بذل الأموال إلا في نفع، وما للشعراء عنده نفاق.
وفيه يقول شاعر:
سلطاننا زاهد والناس قد زهدوا ** لــــه فكــل علــى الخيــرات منكمش
أيامه مثل شهر الصوم طاهــرة ** من المعاصي وفيها الجوع والعطش
وقال سبط الجوزي عنه: لم يلبس نور الدين حريراً ولا ذهباً، ومنع من بيع الخمر في بلاده.. وكان كثير الصوم، وله أوراد في الليل والنهار، ويكثر اللعب بالكرة. فأنكر عليه فقير، فكتب إليه: والله ما أقصد اللعب، وإنما نحن في ثغر، فربما وقع الصوت، فتكون الخيل قد أدمنت على الانعطاف والكر والفر.
قال العماد في (البرق الشامي): أكثر نور الدين عام موته من البر والأوقاف وعمارة المساجد، وأسقط ما فيه حرام، فما أبقى سوى الجزية والخراج والعشر، وكتب بذلك إلى جميع البلاد، فكتبت له أكثر من ألف منشور.
وقال ابن واصل: كان من أقوى الناس قلباً وبدناً، لم ير على ظهر فرس أحد أشد منه، كأنما خلق عليه لا يتحرك. وكان من أحسن الناس لعباً بالكرة، يجري الفرس ويخطفها من الهواء، ويرميها بيده إلى آخر الميدان، ويمسك الجوكان بكمه تهاوناً بأمره. وكان يقول: طالما تعرضت للشهادة، فلم أدركها.
قال سبط الجوزي: حكى لي نجم الدين بن سلام عن والده: أن الفرنج لما نزلت على دمياط، ما زال نور الدين عشرين يوماً يصوم، ولا يفطر إلا على الماء، فضعف وكاد يتلف، وكان مهيباً، ما يجسر أحد يخاطبه في ذلك.
فقال إمامه يحيى: إنه رأى النبي - صلى الله عليه وسلم - في النوم يقول: يا يحيى، بشر نور الدين برحيل الفرنج عن دمياط.
فقلت: يا رسول الله، ربما لا يصدقني.
فقال: قل له: بعلامة يوم حارم.
وانتبه يحيى، فلما صلى نور الدين الصبح، وشرع يدعو، هابه يحيى، فقال له: يا يحيى، تحدثني أو أحدثك؟.
فارتعد يحيى، وخرس، فقال: أنا أحدثك، رأيت النبي - صلى الله عليه وسلم - هذه الليلة، وقال لك كذا وكذا.
قال: نعم، فبالله يا مولانا، ما معنى قوله بعلامة يوم حارم؟.
فقال: لما التقينا العدو، خفت على الإسلام، فانفردت، ونزلت، ومرغت وجهي على التراب، وقلت: يا سيدي من محمود في البين، الدين دينك، والجند جندك، وهذا اليوم افعل ما يليق بكرمك.
قال: فنصرنا الله عليهم.
وقال الإمام ابن كثير: كان طويل القامة، أسمر اللون، حلو العينين، واسع الجبين، حسن الصورة، تركي الشكل، ليس له لحية إلا في حنكه. مهيباً متواضعاً، عليه جلالةٌ ونورٌ. يعظم الإسلام وقواعد الدين.
بعد استشهاد عماد الدين سنة 541هـ تولى القيادة ابنه الملك العادل المجاهد نور الدين محمود.
وفي هذا الوقت كانت الدولة الزنكية قد انقسمت - بعد مقتل مؤسسها عماد الدين - بين ولديه سيف الدين غازي الذي حكم الموصل والجزيرة، ونور الدين محمود الذي حكم مدينة حلب وما جاورها من مدن الشام.
أما أخوهما نصرة الدين أمير أميران، فقد حكم حّران تابعاً لأخيه نور الدين محمود. في حين كان الأخ الرابع قطب الدين مودود لا يزال في رعاية أخيه سيف الدين غازي بالموصل. وكان نهر الخابور هو الحد الفاصل بين أملاك الأخوين؛ وأدَّى الوضع الجغرافي الشرقي إلى أن يرث غازي الأول المشاكل الداخلية، مع كل من الخلافة العباسية والسلطنة السلجوقية في العراق:
أ- يحمي حدود الإمارة من غارات سلاجقة فارس.
ب- يحمي ثغور الإمارة الشمالية من تعديات سلاجقة الروم والداشمنديين والبيزنطيين في آسيا الصغرى.
أما في القسم الغربي، فقد ورث نور الدين محمود المشكلتين الكبيرتين المتمثلتين بأتابكية دمشق، والإمارات الصليبية المنتشرة في مختلف بلاد الشام.
وكان من الطبيعي أن تنشأ بين البيتين الزنكيين في كل من الموصل وحلب علاقات وثيقة، بفعل الروابط الأسرية من جهة، واشتراك آل زنكي بهدف واحد، وهو الجهاد ضد الصليبيين في بلاد الشام.
وكانت حلب تشكل بالنسبة للموصل خط الدفاع الأول وصَّمام الأمان ضد أي خطر تتعرض له؛ فنشأت نتيجة لذلك علاقات جيدة بين سيف الدين غازي الأول، صاحب الموصل، وأخيه نور الدين محمود، صاحب حلب. ثم بين الأمراء الذين توالوا على حكم الموصل بعد غازي الأول، إلا أن هذه العلاقات الودية القائمة على التعاون والدفاع المشترك، شهدت في بعض الأوقات فتوراً عاماً، كان لا يلبث أن يتلاش لتعود المحبة والألفة. فبعد استقراره في الموصل والجزيرة وبعض مناطق بلاد الشام كحمص والرحبة والرقة، كان على سيف الدين غازي الأول أن ينَّسق مع أخيه نور الدين محمود في حلب، ويتعاون معه لاستكمال سياسية والدهما القاضية بالتصدي للصليبيين، مُدركاً في الوقت نفسه أهمية هذا التعاون، خشية أن يستغل أعداء الأسرة فرصة انقسام الإمارة الزنكية لمهاجمتها، بالإضافة إلى الظهور، بمظهر القوة أمامهم؛ لذلك، رأى ضرورة الاجتماع بأخيه بين وقت وآخر لتسوية ما قد ينشأ بينهما من أزمات داخلية بسبب توزيع الإرث الزنكي.
ويبدو - كما يقول الصلابي - أن العلاقات بين الأخوين تعرضت لأزمة عابرة عقب وفاة والدهما بدليل أن سيف الدين غازي الأول أرسل إلى أخيه نور الدين محمود يدعوه للحضور إليه إلا أن صاحب حلب تأخر في تلبية الدعوة معَّللا تصرفه بانهماكه في محاربة الصليبيين.
وقد كانت هناك مجموعة من الأسباب ساهمت في فتور العلاقة بين الأخوين، وهي:
أ- رأى سيف الدين غازي الأول أنه كان يجب على أخيه الوقوف إلى جانبه عندما تعرض الحكم الزنكي في الموصل لخضة سياسية أثارها الملك ألب أرسلان السلجوقي بهدف الاستيلاء على السلطة، وذلك حتى تستقر الأوضاع لهما في البلاد، ثم يستأذنه في العودة إلى بلاد الشام.
ب- عّد سيف الدين غازي الأول تصرف أخيه نور الدين محمود بعد مقتل والدهما أمام قلعة جَعْبَر خروجاً على التقاليد الأسرية عند القبائل التركية التي تقضي بأن تكون السيادة للابن الأكبر.
ج - رأى سيف الدين غازي الأول في تصرف أخيه انفصالاً واضحاً عن الدولة الزنكية؛ لأن استئثار نور الدين محمود بأملاك الأسرة في حلب يعني تكوين حكم انفصالي عن دولة الأتابكة في الموصل.
ولكن سرعان ما استطاع سيف الدين ونور الدين أن يحلا المشاكل التي بينهما، وتعاونا على البر والتقوى. وكان من مظاهر التعاون بين الأخوين اشتراك عساكر الموصل جنباً إلى مع عساكر الشام في الجهاد ضد الصليبيين، وذلك في الدفاع عن دمشق ضد الصليبيين - الذين حاصرت قواتهم المدينة في المحملة الصليبية الثانية عام 543هـ /1148م - ونجاحهم في حمل الصليبيين على الرحيل عن دمشق. ومن مظاهر التعاون أيضاً، اشتراك عساكر الموصل مع عساكر نور الدين في فتح حصن العُريمة وطرد الصليبيين منه.
كما كان من مظاهر التعاون بين الأخوين اشتراك عساكر الموصل مع قوات حلب في هريمة الصليبيين في إنّب، وفي فتح أفاميه سنة 544هـ/1149م.
إلا أن العهد لم يطل بسيف الدين غازي حيث توفي بالموصل في جمادي الآخرة من سنة 544هـ / 1149م بعد أن حكم الموصل ثلاث سنين وشهراً وعشرين يوماً.. وكان سيف الدين غازي جواداً كريماً شجاعاً.
من صفات الملك العادل
يحلل الدكتور الصلابي شخصية نور الدين محمود زنكي بأن مفتاحها شعوره بالمسؤولية وحرصه على تحرير البلاد من الصليبيين وخوفه من محاسبة الله له وشدة إيمانه بالله وباليوم الآخر. وكان هذا الإيمان سبباً في التوازن المدهش والخلاّب في شخصيته، فقد كان على فهم صحيح لحقيقة الإسلام وتعبد الله بتعاليمه.
عمق نور الدين محمود فهمه للتوحيد ومعرفته بالله تعالى.. وحقق في حياته مفهوم التوحيد الصحيح، وحقق الإيمان بكل معانيه، والتزم بشروطه وابتعد عن نواقضه.
وفي ساحة الحرب، حيث الموت على بعد خطوات وحيث لقاء الله آت وراء كل لحظة، كان نور الدين يذوب تواضعاً وإشفاقاً وتصفه تقواه العميقة في حضور مؤثر أمام الله، حيث تتمزق في أعماق وعيه بقايا الستائر والحجب التي ظل يكافح من أجل تمزيقها لكي يقف نقياً.. فعندما التقت قواته في حارم بالصليبيين الذين كانوا يفوقونهم عدة وعدداً، انفرد نور الدين تحت تل حارم وسجد لربه عز وجل ومّرغ وجهه وتضرع، وقال: يا رب هؤلاء عبيدك وهم أولياؤك، وهؤلاء عبيدك وهم أعداؤك، فانصر أولياءك على أعدائك. وإيش فضول محمود في الوسط؟. ويشرح أبو شامة هذا الدعاء بقوله: يشير إلى أنك يا رب إن نصرت المسلمين فدينك نصرت، فلا تمنعهم النصر بسبب محمود إن كان غير مستحق للنصر.
وروى أبو شامة أن نور الدين دعا الله: اللهم انصر دينك ولا تنصر محموداً. من هو محمود الكلب حتى يُنصر.
وفي إحدى المعارك سنة 556هـ، قضى الله بانهزام عسكر المسلمين، وبقي الملك العادل مع شرذمة قليلة، وطائفة يسيرة، واقفاً على تلَّ يقال له تل حبيش، وقد قرب عسكر الكُفَّار بحيث اختلط رجّالة المسلمين مع رجالة الكُفَّار، فوقف الملك العادل بحذائهم مولَّيا وجهه إلى قبلة الدُّعاء، يقول: "يا رَبَّ العباد، أنا العبد الضعيف ملَّكتني هذه الولاية وأعطيتني هذه النيَّابة، عمرت بلادك، ونصحت عبادك، وأمرتهم بما أمرتي به ونهيتني عما نهيتني عنه، فرفعت المنكرات من بينهم، وأظهرت شعار دينك في بلادهم، وقد انهزم المسلمون، وأنا لا أقدر على دفع هؤلاء الكفار أعداء دينك ونبيَّك محمد صلى الله عليه وسلم، ولا أملك إلا نفسي هذه وقد سلمتها إليهم ذاباً عن دينك وناصراً لنبيك".
فاستجاب الله تعالى دعاءه وأوقع في قلوبهم الرُّعب وأرسل عليهم الخذلان فوقفوا في مواضعهم وما جسروا على الإقدام عليه. وظنوا أن الملك العادل عمل عليهم الحيلة، وأن عسكر المسلمين في الكمين، فإن أقدموا عليه تخرج عساكر المسلمين في الكمين فلا ينفلت منهم أحد فوقفوا وما أقدموا عليه..
إن من أسباب نجاح نور الدين محمود في مشروعه النهضوي، استيعابه العميق لفقه الدعاء ومقدرته على استخدامه كسلاح فتاك ضد الأعداء، وحسن تضرعه وانكساره بين يدي المولى عز وجل.
عبادته:
كان الملك العادل نور الدين محمود يصلي أكثر الليالي ويناجي ربه مقبلاً بوجهه عليه ويؤدي الصلاة في أوقاتها بتمام شرائطها وأركانها وركوعها وسجودها.. ويحافظ على الجماعة. وكان كثير الابتهال إلى الله عز وجل في أموره كلها.
وكان من عادة نور الدين أنه ينزل إلى المسجد بغلس، ولا يزال يركع فيه حتى يصلي الصبح.
وقال ابن الأثير: حدثني صديق لنا بدمشق فقال: كان نور الدين يصليّ فيطيل الصلاة، وله أوراد في النهار، فإذا جاء الليل وصلى العشاء نام، ثم يستيقظ نصف الليل، ويقوم إلى الوضوء والصلاة والدعاة إلى بكرة، ثم يظهر للركوب ويشتغل بمهام الدولة. وقال ابن كثير: كان نور الدين كثير المطالعة للكتب الدينية، متبعاً للآثار النبوية، محافظاً على الصلوات في الجماعات، كثير التلاوة، صموتا وقوراً. كان نور الدين كثير الصيام وله أوراد في الليل والنهار، وكان يقدم أشغال المسلمين عليها ثم يتمم أوراده.
لقد فهم نور الدين محمود زنكي - من خلال معايشته للقرآن الكريم وهدي النبي صلى الله عليه وسلم، ومن تفكره في هذه الحياة -بأن الدنيا دار اختبار وابتلاء، وعليه فإنَّها مزرعة للآخرة؛ ولذلك تحَّررَ من سيطرة الدنيا بزخارفها، وزينتها، وبريقها، وخضع وانقاد، وأسلم نفسه ظاهراً وباطناً.
قال ابن الأثير: وحكى لنا الأمير بهاء الدين علي ابن الشكري، وكان خصيصاً بخدمة نور الدين قد صحبه من الصبا، وأنس به وله معه انبساط، قال: كنت معه في الميدان بالُّرها والشمس في ظهورنا، فكلّما سرنا تقدمنا الظل، فلما عدنا صار ظلنا وراء ظهورنا، فأجرى فرسه وهو يلتفت وراءه، وقال لي: أتدري لأي شيء أجري فرسي وألتفت ورائي، قلت: لا، قال: قد شبهت ما نحن فيه بالدنيا، تهرب ممن يطلبها وتطلب من يهرب منها. قلت: رضي الله عن مَلك يفكر في مثل هذا.
تشبه نور الدين محمود بعمر بن عبد العزيز في زهده، فكان نور الدين لا ينفق على نفسه وعلى أهله إلا من مِلك اشتراه من سهمه من الغنائم. وكان يحضر الفقهاء ويستفتيهم فيما يحل له من تناول الأموال المرصدة لمصالح المسلمين فيأخذ ما يفتونه بحله ولم يتعداه إلى غيره البتة.
وأما ما يهدي إليه من الثياب والألطاف وهدايا الملوك من المناديل والسكاكين والمهاميز والدبابيس، وكل دقيق وجليل لا يتصرف في شيء منه بل يعرض نظره عنه، وإذا اجتمع يخرجه إلى مجلس القاضي ليحصل أثمانها الموفورة ويصرفها في عمارة المساجد المهجورة.
ولم يلبس قط ما حّرمه الشرع من حرير أو ذهب أو فضة.. وحكي عنه أنه حمل إليه من مصر عمامة من القصب الرفيع مذهبة فلم يحضرها عنده، فوصفت له فلم يلتفت إليها، وبينما هم معه في حديثها، إذ قد جاءه رجل صوفي فأمر له بها، فقيل له: إنها لا تصلح لهذا الرجل، ولو أعطي غيرها لكان أنفع له، فقال: أعطوها له فإني أرجو أن أعّوض عنها في الآخرة.
وكانت زوجة نور الدين قد قلت عليها النفقة ولم يكفها ما كان قد قّرره لها فلما طلبت زيادة تنكر واحمّر وجهه ثم قال: من أين أعطيها، أما يكفيها مالها؟. والله لا أخوض نار جهنم في هواها، إن كان تظن أن الذي بيدي من الأموال هي لي فبئس الظن؛ إنما هي أموال المسلمين ومرصدة لمصالحهم ومعدّة لفتق من عّدو الإسلام، وأنا خازنهم عليها، فلا أخونهم فيها. ثم قال: لي بمدينة حمص ثلاث دكاكين ملكاً قد وهبتها إياها فلتأخذها: وكان يحصل منها قدر قليل نحو عشرين ديناراً.
قال ابن كثير: كان نور الدين عفيف البطن والفرج، مقتصداً في الإنفاق على أهله وعياله في المطعم والملبس؛ حتى قيل: إنه كان أدنى الفقراء في زمانه أعلى نفقة منه، من غير اكتناز ولا استئثار بالدنيا.
وأما مقّر سكن نور الدين – وهو حاكم الجزيرة والشام ومصر واليمن - فكانت دار متواضعة تطل على النهر الداخل إلى القلعة من الشمال، ألحق بها صُفّة يخلو فيها للعبادة، فلما ضربت الزلازل دمشق، بنى بإزاء تلك الصفة بيتاً من الأخشاب، فهو يبيت فيه ويصبح ويخلو بعبادته ولايبرح.. ولما توفي دفن في البيت البسيط المقام من الأخشاب.
وامتد زهده إلى التخلي عن الألقاب السلطانية الطنانة؛ خوفاً أن يكون في طياتها الكذب والمبالغة والزيف، وخوفاً أن تقوده إلى نوع من الاعتداد والغرور كثيراً ما انتهى إليهما القادة العاملون. وأما نور الدين الذي علمه التجرد كيف يكون الرفض فإنه يتمنع حتى النهاية عن الذهاب مع الإغراء إلى ما يريد الشيطان لا ما يريد الله.
تلقى يوماً من بغداد هدية تشريف عباسيه ومعها "قائمة" بألقابه التي كان يذكر بها على منابر بغداد: "... اللهم أصلح المولى السلطان الملك العادل العالم العامل الزاهد العابد الورع المجاهد المرابط المثاغر نور الدين وعدته ركن الإسلام وسيفه، قسيم الدولة وعمادها، اختيار الخلافة ومعزها، رضيّ الإمامة وأثيرها، فخر الملّة ومجدها، وشمس المعاني وملكها، سيد ملوك المشرق والمغرب وسلطانها، محي العدل في العالمين المظلومين من الظالمين ناصر دولة أمير المؤمنين".
لكن نور الدين أسقط جميع الألقاب، وطرح دعاءً واحد يقول: اللهم أصلح عبدك الفقير محمود بن زنكي.
ولقد مدح ابن القيسراني نور الدين في زهده فقال:
يغشى الوغى أفرس فرسانها ** وفي التقى أزهد زُهّادها
ويقول أيضاً:
ثنى يده عن الدنيا عفافاً ** ومال بها عن الأموال زهدا
ويصوره ابن منير من الصالحين الأبرار الذين يزهدون فيما يتنازع عليه الناس من عرض الدنيا، فيقول:
لازلت تقفــو الصالحين مسابقـــاً ** لُهُم وتَطلْعُ خلفك الأبرار
نفس السيادة زهد مثلك في الذي** فيه تفانت يَعْـرُبُ ونــزار